تعد نظرية الإشراط الكلاسيكي إحدى الأسس المهمة في علم النفس السلوكي، والتي أسهمت بشكل كبير في فهم كيفية تشكل السلوكيات البشرية والحيوانية، وتأسست هذه النظرية على يد العالم الروسي إيفان باڤلوف في أواخر القرن التاسع عشر، وهي تعتبر حجر الزاوية في دراسات التعلم السلوكي، ويوضح الإشراط الكلاسيكي كيف يمكن للمنبهات المحايدة أن تكتسب القدرة على إثارة استجابات معينة من خلال الارتباط المتكرر بمنبهات غير مشروطة.
لا يقتصر فهم هذه النظرية على المجال الأكاديمي فحسب بل يمتد إلى تطبيقات عملية في مجالات متعددة مثل: التربية، والعلاج السلوكي، والإعلانات، ومن خلال هذه المقالة، سنستعرض مفاهيم الإشراط الكلاسيكي، وتجاربه الكلاسيكية، وآليات عمله، وتطبيقاته مع تسليط الضوء على النقد الموجه للنظرية والتطورات الحديثة التي بُنيت عليها.
مفهوم الإشراط الكلاسيكي
الإشراط الكلاسيكي: هو عملية تعلم تتضمن ربط منبه محايد (يسمى المنبه الشرطي) بمنبه غير مشروط يتسبب تلقائيًا في استجابة معينة، وبعد عدد من المحاولات التي يتم فيها اقتران المنبه الشرطي بالمنبه غير الشرطي، يبدأ المنبه الشرطي في إثارة الاستجابة نفسها التي يثيرها المنبه غير الشرطي.
مكونات الإشراط الكلاسيكي
- المنبه غير الشرطي (Unconditioned Stimulus – UCS): هو المنبه الذي يثير استجابة طبيعية وغير مكتسبة، على سبيل المثال: الطعام بالنسبة للكلب هو منبه غير شرطي يثير استجابة طبيعية وهي إفراز اللعاب.
- الاستجابة غير الشرطية (Unconditioned Response – UCR): هي الاستجابة الطبيعية الناتجة عن المنبه غير الشرطي، مثل: الطعام، وإفراز اللعاب عند رؤية الطعام هو استجابة غير شرطية.
- المنبه الشرطي (Conditioned Stimulus – CS): هو المنبه المحايد الذي بعد اقترانه بالمنبه غير الشرطي، يكتسب القدرة على إثارة الاستجابة نفسها التي يثيرها المنبه غير الشرطي. في تجربة باڤلوف، كان صوت الجرس هو المنبه الشرطي.
- الاستجابة الشرطية (Conditioned Response – CR): هي الاستجابة التي تظهر عند تقديم المنبه الشرطي بعد عملية التعلم، في مثال باڤلوف، كانت الاستجابة الشرطية هي إفراز اللعاب عند سماع صوت الجرس، حتى بدون وجود الطعام.
التجربة الكلاسيكية لباڤلوف
إيفان باڤلوف هو عالم الفسيولوجيا الروسي الحائز على جائزة نوبل، وهو الأكثر شهرة بتجاربه حول الإشراط الكلاسيكي، وكانت تجاربه مع الكلاب إحدى أولى الدراسات التي أظهرت كيف يمكن للسلوك أن يُشكل من خلال الارتباط.
أولًا: نبذة عن العالم إيفان باڤلوف
إيفان باڤلوف (1849-1936) كان عالمًا في الفسيولوجيا والطب، وقد أسهم بشكل كبير في دراسة العمليات الفسيولوجية في الحيوانات على الرغم من أنه لم يبدأ حياته العلمية كعالم نفس إلا أن اكتشافاته في مجال الفسيولوجيا قادته إلى اكتشافات مهمة في علم النفس السلوكي.
ثانيًا: تصميم تجربة باڤلوف مع الكلاب
في تجاربه الشهيرة، وضع باڤلوف كلبًا في غرفة معزولة وربطه بجهاز يقيس إفراز اللعاب، في البداية، قدم باڤلوف الطعام للكلب وراقب إفراز اللعاب (استجابةً غير شرطية)، بعد ذلك، بدأ في تقديم صوت جرس قبل تقديم الطعام مباشرة، وبعد محاولات عدة، لاحظ باڤلوف أن الكلب بدأ بإفراز اللعاب بمجرد سماع صوت الجرس، حتى وإن لم يتم تقديم الطعام (استجابةً شرطية).
ثالثًا: نتائج تجربة باڤلوف وتفسيرها
أظهرت نتائج تجربة باڤلوف أن الكلب تعلم ربط صوت الجرس بالطعام، مما جعله يستجيب للجرس بنفس الطريقة التي كان يستجيب بها للطعام، وهذا الاكتشاف أثبت أن السلوك يمكن أن يتشكّل من خلال الارتباط، وهو ما يُعرف الآن بالإشراط الكلاسيكي، كانت تجربة باڤلوف نقطة انطلاق لفهم أعمق للسلوكيات المكتسبة، وكيف يمكن تشكيلها وتعديلها من خلال التجارب المتكررة.
آليات عمل الإشراط الكلاسيكي
الإشراط الكلاسيكي يعتمد على مجموعة من الآليات التي تشرح كيفية اكتساب السلوكيات الجديدة والتخلص منها، وهذه الآليات تفسّر كيف يمكن للسلوكيات أن تتعزز، أو تضعف بمرور الوقت.
أولًا: الاكتساب (Acquisition)
الاكتساب: هو المرحلة التي يبدأ فيها المنبه الشرطي بإثارة الاستجابة الشرطية بعد أن يقترن عدة مرات بالمنبه غير الشرطي، وهذه المرحلة تُعد أساسية في عملية الإشراط الكلاسيكي، حيث يتعلم الكائن ربط المنبه الشرطي بالاستجابة الشرطية، وكلما زاد عدد مرات الاقتران بين المنبهين، كلما كانت الاستجابة الشرطية أقوى وأكثر ثباتًا.
ثانيًا: الانطفاء (Extinction)
الانطفاء يحدث عندما يتوقف المنبه الشرطي عن إحداث الاستجابة الشرطية بعد توقف اقترانه بالمنبه غير الشرطي، فعلى سبيل المثال: إذا توقف باڤلوف عن تقديم الطعام بعد سماع الكلب لصوت الجرس، فإن الكلب سيتوقف تدريجيًا عن إفراز اللعاب عند سماع الجرس، وهذا يشير إلى أن الاستجابة الشرطية يمكن أن تُفقد بمرور الوقت إذا لم تُعزز.
ثالثًا: التعميم (Generalization)
التعميم: هو ميل الكائن لإظهار الاستجابة الشرطية عند مواجهة منبهات مشابهة للمنبه الشرطي الأصلي، فعلى سبيل المثال: قد يستجيب الكلب لصوت يشبه صوت الجرس الذي تعلم ربطه بالطعام، وهذه الظاهرة تشير إلى أن الكائن يمكنه تعميم تعلمه على منبهات جديدة مشابهة.
رابعًا: التمييز (Discrimination)
التمييز: هو عملية تعلم الكائن التفريق بين المنبه الشرطي الأصلي والمنبهات الأخرى التي لا ترتبط بالمنبه غير الشرطي، وعلى سبيل المثال: إذا تم تدريب الكلب على الاستجابة لصوت جرس معين ولكنه لم يحصل على الطعام عند سماع أصوات أخرى، فسيبدأ في التمييز بين الجرس الأصلي والأصوات الأخرى، ويستجيب فقط للجرس المرتبط بالطعام.
تطبيقات الإشراط الكلاسيكي
نظرية الإشراط الكلاسيكي ليست مجرد مفهوم أكاديمي بل لها تطبيقات عملية واسعة في مجالات عدة، حيث تستخدم لفهم وتعديل السلوكيات.
أولًا: تطبيقات الإشراط الكلاسيكي في العلاج السلوكي
يُستخدم الإشراط الكلاسيكي كثيرًا في العلاج السلوكي _خاصةً_ في علاج الفوبيا (الرهاب) من خلال ما يُعرف باسم “الإشراط المضاد” أو “العلاج بالتعرض”، يمكن للمعالجين تعليم المرضى ربط المنبهات التي تسبب لهم الخوف بردود فعل هادئة، أو محايدة، وعلى سبيل المثال: إذا كان المريض يعاني من فوبيا تجاه الكلاب، يمكن للمعالج تعريضه تدريجيًا لكلب في بيئة آمنة ومريحة حتى يتمكّن المريض من التعود على وجود الكلب دون الشعور بالخوف.
ثانيًا: تطبيقات الإشراط الكلاسيكي في الإعلانات والتسويق
يُستخدم الإشراط الكلاسيكي أيضًا في مجال الإعلانات والتسويق، وتستفيد الشركات من هذه النظرية من خلال ربط منتجاتها بمنبهات إيجابية؛ لجعل المستهلكين يشعرون بمشاعر إيجابية عند رؤية منتجاتهم، فعلى سبيل المثال: يظهر إعلان مشروبات غازية في بيئة احتفالية مليئة بالسعادة والمرح يمكن أن يجعل المستهلكين يربطون المنتج بتلك المشاعر الإيجابية، مما يزيد من احتمالية شرائهم للمنتج.
ثالثًا: تأثير الإشراط الكلاسيكي على التعلم والتربية
في مجال التعليم، يمكن استخدام الإشراط الكلاسيكي؛ لتعزيز سلوكيات معينة لدى الطلاب، والمعلمون يمكنهم استخدام المنبهات الشرطية مثل: (الثناء أو المكافآت) لتعزيز السلوكيات الإيجابية في الفصول الدراسية، وعلى سبيل المثال: إذا تم الثناء على الطالب كلما أتم واجبه في الوقت المحدد، فإن ذلك سيعزز لديه السلوك المسؤول، ويزيد من احتمالية تكراره.
نقد نظرية الإشراط الكلاسيكي
رغم التأثير الكبير لنظرية الإشراط الكلاسيكي، فإنها لم تسلم من النقد والانتقادات التي ساهمت في تطوير فهم أعمق للتعلم والسلوك.
أولًا: نقاط القوة في النظرية
أحد أهم نقاط القوة في نظرية الإشراط الكلاسيكي هو بساطتها وقدرتها على تفسير مجموعة واسعة من السلوكيات، تشرح النظرية بشكل مقنع كيف يمكن تشكيل السلوك من خلال الارتباطات، مما يجعلها أداة قوية في كل من البحث العلمي والتطبيقات العملية، إضافةً إلى ذلك، أظهرت التجارب المتعددة، مثل: تجربة باڤلوف التي أوضحت أن النظرية قابلة للتكرار، ويمكن تطبيقها على أنواع مختلفة من الكائنات الحية.
ثانيًا: نقاط الضعف والانتقادات الموجهة للنظرية
من ناحية أخرى، تواجه النظرية بعض الانتقادات، ومن هذه الانتقادات أن الإشراط الكلاسيكي لا يفسر السلوك المعقد بشكل كافٍ، وتركز النظرية بشكل كبير على الاستجابات التلقائية والمحددة، لكنها لا تأخذ في الاعتبار العمليات المعرفية المعقدة مثل: التفكير واتخاذ القرارات، إضافةً إلى ذلك، يرى بعض الباحثين أن النظرية تفتقر إلى تفسير كافٍ لتأثيرات البيئات الاجتماعية والثقافية على تشكيل السلوك.
ثالثًا: مقارنة بين الإشراط الكلاسيكي والإشراط الإجرائي
يختلف الإشراط الكلاسيكي عن الإشراط الإجرائي الذي قدمه (بي. إف. سكينر) في جوانب عدة، بينما يركز الإشراط الكلاسيكي على ربط المنبهات والاستجابات، ويركز الإشراط الإجرائي على كيفية تأثير العواقب على السلوك، وفي الإشراط الإجرائي، يُعد التعزيز والعقاب أدوات رئيسة لتشكيل السلوك، بينما في الإشراط الكلاسيكي يُعد الارتباط بين المنبهات هو المفتاح لفهم السلوك.
دراسات حديثة حول الإشراط الكلاسيكي (تكملة)
أولًا: تجارب معاصرة مستندة إلى النظرية
تسعى التجارب المعاصرة التي تستند إلى نظرية الإشراط الكلاسيكي إلى استكشاف تطبيقات جديدة لهذه النظرية في سياقات متنوعة، فعلى سبيل المثال: بعض الباحثين يدرسون كيف يمكن استخدام الإشراط الكلاسيكي في تصميم الألعاب التعليمية؛ لتعزيز التحفيز لدى اللاعبين، وذلك عن طريق ربط المكافآت بالمهام الصعبة داخل اللعبة، وفي مجال الطب، تُجرى دراسات حول استخدام الإشراط الكلاسيكي للمساعدة في تعديل السلوكيات غير الصحية، مثل: إدمان التدخين، من خلال ربط هذه السلوكيات بمنبهات سلبية.
كما أن هناك اهتمامًا متزايدًا بتطبيق الإشراط الكلاسيكي في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تُستخدم مبادئ الإشراط الكلاسيكي في تصميم أنظمة تعلم آلي يمكنها تحسين تفاعلها مع المستخدمين من خلال التعلم من الارتباطات بين الإجراءات والمحفزات.
تأثيرات الإشراط الكلاسيكي على العلوم الأخرى
لم تقتصر نظرية الإشراط الكلاسيكي على مجال علم النفس فقط بل كان لها تأثير عميق على عديد من العلوم الأخرى، مما ساعد في توسيع فهمنا للسلوك الإنساني والحيواني.
أولًا: دور الإشراط الكلاسيكي في علم الأعصاب
استفاد علم الأعصاب بشكل كبير من مفاهيم الإشراط الكلاسيكي لفهم كيفية تشكل الذكريات والارتباطات العصبية، وتركز الأبحاث العصبية الحديثة على دراسة كيف تتغير الروابط بين الخلايا العصبية في الدماغ أثناء عملية الإشراط؛ مما يوفر رؤى مهمة حول كيفية تشكل وتخزين الذكريات السلوكية، وهذه الدراسات ساعدت أيضًا في تطوير إستراتيجيات جديدة لعلاج اضطرابات الذاكرة مثل: مرض الزهايمر.
ثانيًا: تأثير النظرية على الدراسات الاجتماعية
في الدراسات الاجتماعية، ساعدت نظرية الإشراط الكلاسيكي في فهم كيفية تشكيل السلوكيات الاجتماعية والعادات الثقافية، على سبيل المثال: يمكن تطبيق الإشراط الكلاسيكي لفهم كيفية تطور سلوكيات معينة داخل المجتمعات من خلال التعرض المستمر لمنبهات معينة، كما أن هذه النظرية تُستخدم في تحليل كيفية تأثير الإعلام والدعاية على تشكيل الرأي العام وسلوك المستهلكين.
اترك تعليقاً