تعد نظرية التعلم بالاستبصار، المعروفة أيضًا بالنظرية الجشطلتية (Gestalt Theory)من النظريات النفسية والتربوية التي أحدثت تحولًا نوعيًا في فهم عملية التعلم، وتختلف هذه النظرية عن غيرها من نظريات التعلم التقليدية التي تعتمد على مبدأ التعلم التدريجي والخطوة بخطوة، حيث ترى أن التعلم يحدث عبر استبصار، أو إدراك فجائي للعلاقة بين الأجزاء المكونة للموقف التعليمي، أو المشكلة المطروحة، ويرتكز مفهوم الاستبصار على فهم الكل قبل تحليل الأجزاء، مما يعني أن الفهم الحقيقي للموقف، أو المشكلة يأتي من رؤية العلاقات الكلية بين العناصر.
التعريف الأكاديمي للتعلم بالاستبصار (النظرية الجشطلتية)
يركز التعلم بالاستبصار على إدراك الكل قبل الأجزاء، حيث يحدث التعلم عندما يتمكن الفرد من فهم وإدراك العلاقات بين العناصر المختلفة التي تتكون منها المشكلة، يُعرف الاستبصار بأنه “الفهم المفاجئ للعلاقة بين الأجزاء المختلفة للموقف الذي يؤدي إلى حل المشكلة بطريقة شاملة”.
وفي هذا السياق، يؤكد العلماء الجشطلتيون على أن التعلم لا يعتمد فقط على التكرار، أو المحاولة والخطأ بل على الفهم الفجائي للأنماط والعلاقات الموجودة في البيئة.
نشأة وتطور النظرية الجشطلتية
ظهرت النظرية الجشطلتية في أوائل القرن العشرين كرد فعل على النهج التجريبي والتحليلي الذي تبنته مدارس علم النفس السلوكية، ورفض العلماء الجشطلتيون الرؤية التي ترى أن التعلم يعتمد على تفكيك الموقف إلى عناصر صغيرة وتعلمها تدريجيًا، مؤكدين أن الفهم الشامل للكل هو ما يسهم في التعلم الحقيقي.
-
ماكس فيرتهايمر (1880-1943):
يُعد فيرتهايمر أحد الرواد الأساسيين في تطوير النظرية الجشطلتية، وقدم مفهوم “الاستبصار” في إطار حل المشكلات وشرح كيف أن الفرد قادر على إدراك العلاقات بين العناصر وحل المشكلات بشكل شامل.
-
وولفجانج كوهلر (1887-1967)::
ركز كوهلر على التجارب المتعلقة بالتعلم بالاستبصار بين الحيوانات، ولا سيما القرود، حيث أظهر أن الحيوانات يمكنها حل المشكلات بطريقة شمولية وليس فقط عن طريق التجربة والخطأ.
-
كورت كوفكا (1886-1941) :
قدم كوفكا إسهامات كبيرة في نشر أفكار الجشطلت حول التعلم، مؤكدًا على أن الإدراك هو عملية شاملة تعتمد على فهم العلاقات بين الأجزاء المكونة للكل.
المبادئ الأساسية للنظرية الجشطلتية:
- مبدأ الكلية: يعد مبدأ الكلية (The Whole Principle) من أهم المبادئ التي تقوم عليها النظرية الجشطلتية، ويشير هذا المبدأ إلى أن الفرد يدرك الموقف التعليمي، أو المشكلة ككل متكامل وليس كمجموعة من الأجزاء المنفصلة؛ ويؤدي هذا الإدراك الشامل إلى التوصل إلى الحلول بسرعة وفعالية.
- مبدأ الاستبصار: يركز مبدأ الاستبصار (Insight) على أن التعلم يحدث فجأة عندما يدرك الفرد العلاقة بين الأجزاء المختلفة للمشكلة، وهذا الإدراك ليس تدريجيًا بل هو فهم لحظي للأنماط والعلاقات.
- مبدأ التنظيم: يشير مبدأ التنظيم (Organization) إلى أن العقل البشري يميل إلى تنظيم المعلومات والمثيرات بطريقة معينة؛ لتكوين صورة كلية ومتكاملة، ويعتمد التعلم هنا على قدرة الفرد على تنظيم المعلومات بطريقة تتيح له رؤية الأنماط والعلاقات المهمة.
- مبدأ التشابه: يعتمد مبدأ التشابه (Similarity) على أن العقل يميل إلى تجميع الأشياء المتشابهة معًا؛ مما يسهل إدراك العلاقات بين الأجزاء المختلفة. يتم التعلم من خلال رؤية الأنماط المتشابهة وتجميعها في صورة كلية.
- مبدأ الاستمرارية: يشير مبدأ الاستمرارية (Continuity) إلى أن العقل يميل إلى إدراك الأشياء التي تبدو كجزء من نمط أو تسلسل مستمر. في عملية التعلم، يتم التركيز على استمرارية الأنماط والعلاقات لفهم الموقف بشكل كامل.
- مبدأ الشكل والخلفية: يؤكد مبدأ الشكل والخلفية (Figure and Ground) على أن العقل البشري يميز بين الكائنات الموجودة في المقدمة والكائنات الموجودة في الخلفية. أثناء التعلم، يتم التركيز على العناصر المهمة في المقدمة بينما تُهمل التفاصيل الأقل أهمية.
التطبيقات التربوية للنظرية الجشطلتية:
تعد النظرية الجشطلتية من النظريات التي يمكن تطبيقها بسهولة في العملية التربوية، حيث تقدم أساليب جديدة؛ لفهم كيفية تعلم الأفراد وتفاعلهم مع المواقف التعليمية.
- حل المشكلات: تركز النظرية الجشطلتية على حل المشكلات بطريقة شمولية، في التعليم، يمكن للمعلمين تقديم المشكلات التعليمية بطريقة تسمح للطلاب بإدراك العلاقات بين الأجزاء وحل المشكلة بطريقة استبصارية، وعلى سبيل المثال، يمكن أن يُطلب من الطلاب تحليل مشكلة رياضية معقدة من خلال فهم الأنماط العامة بدلاً من حلها خطوة بخطوة.
- تعليم الفنون البصرية: في تعليم الفنون البصرية، تساعد النظرية الجشطلتية الطلاب على إدراك العلاقة بين العناصر المختلفة في اللوحة أو التصميم، ويمكن أن يُطلب من الطلاب تحليل الكل قبل البدء في التركيز على التفاصيل الصغيرة، مما يعزز من فهمهم للعمل الفني بطريقة أكثر شمولية.
- تعليم الرياضيات: في تعليم الرياضيات، يمكن تطبيق مبادئ النظرية الجشطلتية لمساعدة الطلاب على إدراك الأنماط الرياضية والعلاقات بين الأرقام، ومن خلال تقديم المشكلات الرياضية ككل، يتمكن الطلاب من استيعاب المفاهيم بشكل أسرع وأوضح.
- تعليم اللغات: تركز النظرية الجشطلتية في تعليم اللغات على الفهم الشمولي للنصوص، أو المفردات بدلًا من التركيز على الكلمات الفردية، ويمكن أن يُطلب من الطلاب تحليل النصوص الكبيرة لفهم المعنى العام قبل البدء في دراسة المفردات الصغيرة.
التحديات والانتقادات التي تواجه النظرية الجشطلتية
على الرغم من الفوائد الكبيرة التي تقدمها النظرية الجشطلتية في التعليم وحل المشكلات إلا أنها واجهت بعض الانتقادات والتحديات التي يجب أخذها في الاعتبار.
-
التعلم غير المتدرج:
يُنتقد مبدأ الاستبصار أحيانًا؛ لعدم اعتماده على التعلم التدريجي، وفي بعض الحالات، قد يكون من الضروري للمتعلمين بناء المهارات تدريجيًا _خاصةً_ في المجالات التي تتطلب تعلمًا معقدًا، أو تخصصيًا.
-
التركيز على الفهم الشمولي:
التركيز المفرط على الفهم الشمولي قد يؤدي إلى إغفال بعض التفاصيل المهمة، وفي بعض الحالات، قد يتطلب التعلم الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن تجاهلها؛ من أجل تحقيق الفهم الكامل.
-
عدم ملاءمة كل المواقف:
تواجه النظرية الجشطلتية تحديًا في تطبيقها على جميع المواقف التعليمية، وفي بعض الحالات، قد لا يكون الحل الفجائي، أو الاستبصار كافيًا لحل المشكلة، مما يتطلب اتباع نهج أكثر تجريبيًا يعتمد على المحاولة والخطأ.
مقالات ذات صلة:
- نظريتا X و Y لدوجلاس ماكجريجور
- نظريات السلوك التنظيمي
- نظرية التوقع لفيكتور فروم
- نظرية العاملين لهيرزبرج
- استراتيجية حل المشكلات في التدريس
الأسئلة الشائعة
ما هو التعلم بالاستبصار؟
التعلم بالاستبصار هو عملية فهم فجائية للعلاقة بين الأجزاء المختلفة للموقف التعليمي، أو المشكلة، مما يؤدي إلى حل شامل وفوري للمشكلة.
ما الفرق بين التعلم بالاستبصار والتعلم بالتجربة والخطأ؟
يختلف التعلم بالاستبصار عن التعلم بالتجربة والخطأ في أنه يعتمد على الفهم الفجائي والشامل للموقف بدلاً من التجربة المتكررة للوصول إلى الحل.
ما هي التطبيقات العملية للنظرية الجشطلتية في التعليم؟
تشمل التطبيقات العملية للنظرية الجشطلتية في التعليم تعليم الرياضيات، الفنون البصرية، حل المشكلات، وتعليم اللغات.
ما هي المبادئ الأساسية للنظرية الجشطلتية؟
تتضمن المبادئ الأساسية للنظرية الجشطلتية مبدأ الكلية، ومبدأ الاستبصار، ومبدأ التشابه، ومبدأ الاستمرارية، ومبدأ التنظيم.
ما هي الانتقادات التي تواجه النظرية الجشطلتية؟
تواجه النظرية الجشطلتية بعض الانتقادات مثل: التركيز المفرط على الفهم الشمولي، وعدم التركيز على التعلم التدريجي.
المراجع
Köhler, W. (1929). Gestalt Psychology. New York: Liveright.
Wertheimer, M. (1945). Productive Thinking. New York: Harper & Row.
Smith, J., & Johnson, R. (2020). Gestalt theory in modern education: Applications and implications. Journal of Educational Psychology, 35(2), 45-67.
Brown, T., & Green, L. (2019). Gestalt principles and problem solving in the classroom. International Journal of Educational Research, 42(1), 89-104.
اترك تعليقاً